صنفت المنظمة العالمية للصحة انتشار وباء “كوفيد19” بالجائحة ولم تعرف البشرية في عصرنا الحديث جائحة شغلت العالم دولا وشعوبا ومنظمات ومؤسسات مثل جائحة كورونا التي اجتاحت كل دول العالم فأصابت إلى حد الآن ما يفوق نصف مليون نسمة ، أفنت منهم أكثر من عشرين ألف إنسانا ولا تزال الأرقام تتصاعد كل يوم وتتتالى قرارات الدول وتوصيات المنظمات الصحية ويتزايد نفير الشعوب ضد هذا الإعصار الوبائي العالمي الفتاك.
المقدمة:
تاريخيا اقترن الوباء بالفناء فقد عرفت الانسانية موجات عديدة لأوبئة فتاكة قضت على شعوب وأنهت دولا، فطاعون “جست نياما” قضى على 50 مليون نسمة، وأنه ىحكم بيزنطة، وفي القرن الماضي إثر الحرب العالمية الأولى ورغم اكتشاف الأمصال والمضادات الحيوية تسببت “الأنفلونزا الإسبانية” في وفاة 50 مليون نسمة ،ولاتزال الأوبئة في الزمن القريب تصيب الملايين وتحصد الآلاف من الأرواح، فقد أصاب وباء “إبولا” في غينيا سنة2004قرابة 29 ألف نسمة قضت على 11ألف شخص منهم.
استنفرت كل الدول قواها وتركزتاهتماماتها تحسبا و تعطيلا لانتشار هذا الفيروس الذي عجزت عديدالدول عن مواجهته. أغلقت الحدود ومنع التجول وأعلن الحجر الصحي العام فتعطلت حياة المدن إلا في الجزء الحيوي منها. تغير سلوك المواطنين وتنامى الخوف والحذر مع تنامي عدد الوفيات وعدد الإصابات في العالم وقد لعبت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي دورا محوريا في تنامي الوعي بخطورة الجائحة ووسائل التوقي منها. وعملا بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد 25/95 المؤرخ في 6 اكتوبر 2011 ،أكدت مذكرة الصحة العالمية والسياسة الخارجية، على الترابط الأساسي بين الأهداف في مجالي الصحة والسياسة الخارجية والحاجة المتأكدة إلى منظومة متعددة الأطراف ذات طابع كلي وشامل كما دعت إلى تعزيز التعاون الدولي من أجل منع أو التقليل إلى أدنى حد من التهديدات الناشئة أو المتجددة بالنسبة للصحة العالمية كما أكد أن الحوكمة الرشيدة للصحة العالمية تتطلب وجود منظومة قوية للأمم المتحدة، ولكن رغم السوابق الوبائية والتوصيات الدولية في التعامل مع الجوائح لم يرتق أداء المؤسسات الدولية و الدول و المؤسسات الوطنية و المواطنين إلى الحجم المطلوب من التعاون والتنسيق وتحديد الإستراتيجيات وتعبئة الموارد لمواجهة العدو المشترك العابر للدول والقارات والمهدد للصحة العالمية بل للحياة البشرية في أي منطقة من الأرض.
وقد صرح السيد إلياس الفخفاخ في مقال له صدر في مجلة ليدرز في 9 أفريل 2017 بقوله:”إن المركزية أثبتت عجزها وصارت معطلة للنمو”، وفي نهاية جانفي 2020 وبصفته رئيس الحكومة المقترح أدرج محور اللامركزية ضمن المحاور السبعة التي ستعمل الحكومة على دعمها والنهوض بها، و لكن في كلمته أمام مجلس نواب الشعب يوم 25 مارس 2020 يعلن الفخفاخ أنه لا مكان للامركزية ولا مجال للاجتهاد و لا خيار للدولة في وضع الأزمة إلا مركزية القرار ، وأن المطلوب هو التطبيق دون اجتهاد. فهل نحن أمام تعطيل للفصل 14 من الدستور؟ وأي مسؤولية تتحملها المجالس البلدية في ظل أزمة جائحة كورونا؟
-Iمسؤولية المجالس البلدية و السلطة المركزية:
خول الفصل 80 من الدستور “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية…” وهو الفصل الذي اعتمده رئيس الجمهورية ليعلن حظر التجول ثم ليحدد الجولان والتجمعات خارج أوقات حظر التجول، وتم ذلك في غياب قانون ينظم الحالات الاستثنائية دون المساس بالحقوق والحريات، لم يسلم الأمر عدد 50 لسنة 1978، المعتمد في إعلان حالة الطوارئ، والذي صدر في أعقاب أحداث 26 جانفي 1978 النقابية، من الانتقاد والطعن بعدم دستوريته من طرف العديد من رجال القانون .
كما أسندت مجلة الجماعات المحلية في الفصل 240 للمجالس البلدية مسؤولية “ضمان الوقاية الصحية والنظافة وحماية البيئة واتخاذ التراتيب العامة في شأنها” ونص دستور 2014 في الفصل 38 على أن “تضمن الدولة الوقاية والرعاية الصحية لكل مواطن، وتوفر الإمكانيات الضرورية لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية…”و نص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية في المادة 12 أن من ضمن حقوق الإنسان التمتع ب”…الوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها…وتهيئة ظروف من شأنها تأمين الخدمات الطبية والعناية الطبية للجميع في حالة المرض” وهو ما يؤكد المسؤولية المشتركة بين السلط المحلية والسلطة المركزية والمنتظم الدولي في مجال ضمان الوقاية من الإصابة بوباء كورونا.
السلطة المحلية باب من أبواب الدستور، حيث كرس الباب السابع منه اللامركزية و وضع قواعدها وضبط أطرها وضمن احترامها وألزم الدولة بدعمها. فالبلدية جماعة محلية تتمتع بالشخصية القانونية و بالاستقلالية الإدارية والمالية وتدير المصالح المحلية وفقا للتدبير الحر (الفصل132 من الدستور)كما أنها تتمتع بسلطة ترتيبية في مجال ممارسة صلاحياتها(الفصل134 من الدستور)، تتمتع البلدية بالاختصاص المبدئي العام لممارسة الصلاحيات المتعلقة بالشؤون المحلية وتمارس الصلاحيات التي يسندها لها القانون سواء بمفردها أو بالاشتراك مع السلطة المركزية أوبالتعاون مع الجماعات المحلية الأخرى(الفصل18 من مجلة الجماعات المحلية).الاختصاص المبدئي العام الذي تتمتع به البلديات يتجاوز الصلاحيات المسندة إلى البلدية بنص قانوني ليمتد إلى كل الصلاحيات الغير مسندة قانونا لغيرها، فللبلدية بهذا المعنى سلطة قرار واسعة المجال كاملة المسؤولية ملزمة بالعمل على تحقيق المصلحة المحلية المتمثلة في ضمان وقاية الناس من الإصابة بفيروس كورونا.
ألزم الفصل 14 من الدستور الدولة بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني، والدعم نقيض الترك والتخلي، الدعم يستدعي الإقرار بأن الجماعات المحلية ركيزة أساسية في نظام الجمهورية الثانية، كما أن الدعم يستدعي تسخير الإمكانيات المادية والبشرية للجماعات المحلية ونقل الصلاحيات وتقاسم المسؤولية بين السلطة المركزية والسلط المحلية. إذ تعرف توطئة الدستور طبيعة النظام الجديد للدولة بكونه نظام جمهوري ديمقراطي تشاركي يقطع مع النظام السابق الذي اتسم بأحادية القرار وبالمركزية المشددة. فكيف يمكن المزاوجة بين الحالة الاستثنائية واحترام التقيد بأحكام الدستور وعدم خرقه؟
جعل دستور 2014 للمجلس البلدي رغم اتساع صلاحياته إطارا يقيده وألزمه بالعمل في إطاره ومنعه من تجاوزه، فقد نص الفصل 14 من الدستور على أن “تلتزم الدولة بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني في إطار وحدة الدولة”، وإطار وحدة الدولة في دولة موحدة وليست فدرالية تترجم بالصلاحيات السيادية للدولة وهي صلاحيات تنفرد الدولة بممارستها وأن التدخل في مجالها مشروط بموافقة السلطة المركزية. سلطة الدولة تتصف بالعلو والمركزية، فإلى جانب القضاء و العلاقات الخارجية وضرب العملة وحفظ الأمن العام والدفاع عن الوحدة الترابية، فإن الإنفراد بالتشريع هو نواة السيادة والركن الأساسي لوحدة الدولة التي لا يمكن بحال التفويض فيها وإلا تغير نظام الدولة من دولة موحدة إلى دولة فدرالية أو دولة جهوية. في دولة القانون تتساوى السلطة المركزية والسلط المحلية في واجب الالتزام بالقانون و تجريم الخروج عنه.
يختلف مفهوم النظام الموحد عن مفهوم النظام الأحادي، فنظام الدولة التونسية نظام موحد كما أسلفنا الذكر، لكنه ليس بنظام تتجمع فيه سلطة القرار في قمة السلطة، فقد نص تقرير لجنة الجماعات العمومية الجهوية والمحلية التي أعدت مشروع الباب السابع من الدستور على أن “التنظيم الإداري اللامركزي يقوي دعائم الديمقراطية عبر تفكيك أسس النظام الأحادي من خلال الاعتماد بدرجة أولى على تشريك المواطن في البرامج السياسية بشكل مباشر على المستوى المحلي وعلى توزيع صلاحيات اتخاذ القرار بين هيئات التنمية والتخطيط المركزية ونظيراتها المحلية”.
الشعب صاحب السيادة يمارسها عبر ممثليه، وعلى عكس سيادة الأمة فإن سيادة الشعب قابلة للتجزئة، فالمستشارون البلديون الذين يبلغ عددهم 7212 منتخبون محليا مباشرة من طرف الشعب و يمثلون سلطة هي ركن من أركان مؤسسات الدولة لا يمكن بأي حال في دولة القانون تجاهلهم أو تقزيم دورهم ولو في الحالات الاستثنائية، وفي غياب مجالس جهوية منتخبة ومجالس إقليمية ومجلس أعلى للجماعات المحلية يتضاعف دوره المجالس البلدية و مسؤوليتها في تحقيق المصالح المحلية وعلى رأسها اليوم الحد منانتشار وباء كورونا بين الناس.
حالة الأزمة تقتضي أن يكون للبلديات دورا أساسيا في ممارسة السلطة عامة و ضمان الوقاية الصحية للمواطنين خاصة، انحراف السلطة نحو المركزية التي ثبت فشلها في الخروج من الأزمات التي مرت بها البلاد وعرقلت نموها وهمشت شعبها ومهدت للاستبداد والفساد،من المحاذير التي تستدعي الانتباه. أليس من الأجدر أن تتوزع الأدوار بين السلطة المركزية والمجالس البلدية المنتخبة والالتزام بروح الدستور ومنطوقه ومقاصده التي من أهمها مبدأ قرب مركز القرار من المواطنين و مبدأ التشاركية في اتخاذ القرار؟
I I- مسؤولية المجالس البلدية تجاه المتساكنين:
مقاومة انتشار فيروس كورونا بين السكان مسؤولية الجميع سلطة وشعبا،أفرادا ومؤسسات، كل قادر على المساهمة،مساهمة إيجابية بالقيام بفعل أو بمنع فعل في المحيط المحلي باعتباره جزء من التراب الوطني،أو مساهمة سلبية بالالتزام الفردي بما يجب فعله والامتناع عما يجب تركه وذلك أدنى ما يقدر عليه المواطن وليس أدنى منه في حالة الأزمة إلا الإجرام في حق نفسه ومحيطه.
اتجهت أحكام دستور 2014إلى استعادة المواطن التونسي لدوره في تقرير مصير المجموعة الوطنية والمجموعة المحلية وحماية مصالحها، فمنذ ظهور الوباء بتونس قامت منظمات وجمعيات و أحزاب و طلبة جامعات وإطارات وإعلاميون و أئمة وغيرهم بمبادرات عديدة وأعلنوا استعدادهم للتطوع والقيام بما تستوجبه المرحلة من عمل ميداني فمنهم من وضع رقمه على ذمة الناس للخدمة ومنهم من صنع ادوات الوقاية ومنهم من تصدر حملات التوعية ومنهم من قام بتعزيز خدمات الإسعاف والحماية وتنظيم طرق التزود و التعقيم ومنهم من دعم عمليات التبرع وغير ذلك كثير يبقى السؤال المطروح عند اشتداد الأزمة لا قدر الله من يتولى التنسيق بين هته القدرات لتتشكل شبكة من الخدمات مترابطة ومتكاملة تستجيب لكل التحديات المتوقعة؟ أليست المجالس البلدية هي الأقرب للمتساكنين وهي الأقدر على القيام بهذا الدور الهام .
سبقت مجالس محلية في أوروبا دولهم فأعلن تمنع التجول المحلي المحدود على صنف من المواطنين، وعينت أخرى أوقات خاصة لكبار السن للتزود و ضمنت خدمة المسنين وذوي الحاجات في بيوتهم و نظمت خدمات عن بعد ورعت أطفال الأعوان المسخرين للعمل في القطاع الصحي كما تولت تقديم المساعدات الاجتماعية لبعض أصناف من المتساكنين و أعادت تنظيم خدمات الحالة المدنية والدفن و رفع الفضلات مع القيام بحملات توعية وتواصل وتغيير سلوك مع المواطنين إلى جانب ضمان الرقابة والإعلام عن كل المخاطر الطارئة وهو أمر لا يمكن إنكار أهميته.
على خلاف الهياكل اللامحورية الفاقدة للشخصية القانونية والمسؤولية الكاملة وحرية التدبير فإن البلديات،بما تتميز به مسؤولية كاملة وقدرة على اتخاذ القرار، هي الأجدر بجمع المسؤولين المحليين والمنظمات والجمعيات ووجهاء المنطقة لتنسيق الجهود وتجميع القدرات واستنباط الحلول واستشراف الأحداث ووضع خطة محلية مشتركة لمواجهة هذه الجائحة وإنقاذ الأرواح ونجدتهم وضمان أمنهم الصحي والغذائي تناسقا وانسجاما مع مجهودات السلطة المركزية حتى لا ينفلت الأمر وتعم الفوضى وتنفلت الأمور لا قدر الله.
أعلن رئيس الحكومة عن إنشاء هيئة وطنية لمجابهة وباء “كوفيد 19″جعلت لها لجانا فرعية جهوية يشرف عليها الوالي كما أعلن عن إنشاء قاعة عمليات مركزية بالعوينة تضم ممثلين لكل المتدخلين في التعامل مع مستجدات الأزمة، لكن كيفية مجابهة الوباء على المستوى المحلي يكتنفه الغموض رغم خطورة التهديد الوبائي.
أحدثت أزمة انتشار الوباء تحولا سريعا،غير إرادي، مؤلما، أنتج حيرة وضغطا نفسيا وخوفا من تطور آثاره الخطيرة. تضع هذه الأزمة مشروعية المسؤولين المحليين في الميزان كما تضعهم أمام احتمال ردود فعل عنيفة، ففي ظل تطور الوضع يجد رؤساء البلديات أنفسهم في الواجهة والمساءلة من طرف المتساكنين الذين انتخبوهم وعلقوا عليهم آمالهم في تحقيق انتظاراتهم وتوفير حاجياتهم وضمان سلامتهم. العديد من رؤساء البلديات يستنقصون دورهم و مسؤوليتهم تجاه الأزمة ويركنون إلى العقلية المركزية الانتظارية رغم عظم المسؤولية التي اسندها إليهم الدستور و مجلة الجماعات المحلية.
في ظل غياب مخططات بلدية لإدارة الأزمة واستشراف المستقبل والاستعداد للتدخل وفي ظل غياب خلية أزمة محلية تضمن حسن التواصل بين المعنيين بالتدخل واستمرار التواصل مع المتساكنين،لايمكن للبلديات إدارة الأزمة واستبعاد المخاطر بشكل ناجع. البلديات تحتاج إلى إمكانيات مادية وبشرية وإلى آليات تواصل فعالة مع السلطة المركزية من جهة ومع المواطنين من جهة أخرى كما تحتاج إلى قاعدة بيانات وخرائط تعتمدها وإلى قدر من المرافقة والتوجيه الفني في إدارة الأزمة الوبائية.
الوباء في العالم يصيب مختلف مراكز القرار فالتهديد شامل ونظام الدولة التونسية يقف على قائمتين، السلطة المركزية والسلط اللامركزية، وأي شلل يصيب احداها تصير عرجاء ويتعطل نشاطها وتضعف مقاومتها بينما تكاملهما ضمانة أكبر لنجاعة الإجراءات ونجاح الاستراتيجيات وتحقيق الهدف المرجو وهو ضمان وقاية المتساكنين من الإصابة بفيروس كورونا.
الخاتمة
قرار رئيس الحكومة العودة إلى المركزية لمواجهة أزمة كورونا ربما يحتاج إلى المراجعة، فدعم اللامركزية إلزام دستوري للدولة، وتجاهله تعطيل للدستور وتفريط في مصالح المواطنين وتعريض حياتهم للخطر. مساهمة البلديات ودعم قدراتها وتحديد أدوارها في مواجهة انتشار الوباء و وقاية الناسمع تشريكهم في القيام بهذا الدور،واجب وطني ودستوري وقانوني، يحمي المتساكنين و يسمو بوعيهم ويحملهم المسؤولية ويرفع من مدنيتهم و من تعلقهم بهذا الوطن واعتزازهم بالانتماء اليه والمساهمة في بنائه فتمتن بذلك روابط المجتمع ويشتد بنيانه وتضعف احتمالات الانفلات ومنسوب الغضب والعنف التي تظهر عند اشتداد الأزمات.
صلاح الدين كمون (باحث تونسي(